اذكر جيدا ما كان المتظاهرين في ميدان التحرير أثناء ثورة 25 يناير يهتفون به ليلا نهارا بكلمات تنطلق من قلوبهم قبل حناجرهم صارخين أن “يسقط يسقط حكم العسكر”..
وربما كان البعض وقتها يردد تلك الهتافات وهو لا يدري تماما ما تعني من تمني سقوط حكم هؤلاء العسكريون ولماذا، وربما كان عمر بعض الهاتفين لا يسمح بمعرفة تاريخ الحكام العسكريون وما فعلوه بالدول العربية عامة وبمصر خاصة منذ ثورة يوليو 52، وكم الإختلاف الهائل بين مصر قبل ذلك الإنقلاب العسكري “الذي أسموه لاحقا بالثورة ليلبسوه ثوب الشرعية رغم عدم خروج ولا حتى علم الشعب بما كان يحدث” وربما ولا حتى بعده، وربما كذلك لم يكن يعرف المتظاهر في ميدان التحرير تفاصيل تلك العناوين التي قد يصادف قراءتها من كلمات مثل النكسة أو مراكز القوى ومخابرات صلاح نصر وحرب اليمن وغيرها من أحداث غيرت ودمرت وأخرت كثيرا ذلك البلد الذي كان يوما في صدارة الدول ودائنا لأكبر امبراطوريات العالم وحلما لكل شاب أوروبي أن يعمل فيه ويرتزق منه وجاذبا لكبريات الشركات والمؤسسات العالمية وفخرا لكل من يحمل جواز سفر عليه كلمات منقوشة بالذهب بإسم “المملكة المصرية”، ليتحول بقدرة قادر على يد الحكام الجدد من قادة الإنقلاب العسكري الى معمل تجارب لخبراتهم المحدودة وكفاءاتهم الوليدة وثقافتهم المعدومة، وليتكرر سقوطهم في اختبار تلو الآخر ويتكرر معه سقوط مصر من حال لأسوأ ومن درجة لأقل ومن وضع عالِ لأسفل، مع ما يصاحب ذلك من إصابة بمرض الإنكار لحالات الفشل المتوالي في كل المجالات وعلاج ذلك الداء بتسخير وسائل الإعلام لقول غير الحق وللصعود بالمسئولين في ذلك العهد وما يليه الى درجات أشباه الآلهة الذين أصبحوا يحكمون شبه دولة، فلم يعد هناك ما يمكن تحديده أو تمييزه أو وصفه بمصر كما كان من قبل، فكل شيء أصبح شبه شيء، ففي شبه دولة يتولى شبه مسئولين يديرون شبه مصانع ومزارع ليست بالفعل كذلك، الى شبه تعليم يخرج لنا شبه متعلمين، يعملون في شبه أعمال لا تخرج لنا منتجات حقيقية لتمثل في النهاية شبه صادرات لا تعني ولا تغني عن إستيراد كل المنتجات “الحقيقية”، وحتى الفن بعدما كنا رواده وصانعيه ويتلهف جميع من حولنا ليتلقف كل جديد لمبدعينا ويتخذونا مثالا يحتذى، تحول الى شبه فن لأشباه فنانين وأنصاف مبدعين وأصفار موهوبين، وبالطبع لم تسلم الرياضة من ذلك الإنحدار والإنهيار الشامل، فما عدا بعض الفلتات والإستثناءات اصبحت الساحة مليئة بأشباه الرياضيين الذين هم بالتالي ضحايا لأشباه الإداريين والقائمين على رعاية الرياضة واللاعبين، ولم يتوقف الحال عند ذلك الحد من التداعي والسقوط الرأسي السريع، بل أظهر ذلك الفشل في كل المجالات أسوأ ما في نفوس وقلوب وعقول الناس، فتدهورت الثقافة الشعبية سريعا مع غياب المثقفين الحقيقيين والموهوبين الذين لا يبدعون في التطبيل ولحس البيادات ولا يؤمنون إلا بالفكر الحر وبمواهبهم ويتمسكون بأرواحهم المبدعة المتقدة الباحثة عما يناسبها من أجواء يمكنها فيها النماء وإثراء المجالات الإبداعية ثقافية كانت أم رياضية أو فنية أو حتى إقتصادية، فهم يتقنون التفكير والإبداع والخلق والإبتكار، بينما يعيشون في واقع وزمان ومكان لا يفلح فيه إلا أصحاب اللسان لا العقول، ومبدعي النفاق لا الأفكار، وموهوبي التسلق والتملق لا الإبداع والإبتكار والإختراع، ومسئولين أدمنوا سماع كلمات الزيف والإطراء دون سبب ولا مناسبة وأشاعوا مباديء غير معلنة أو مكتوبة لكنها معلومة بالضرورة لكل ماسح جوخ ونصف موهوب ومتسلق على أكتاف الغير وسارق للحظوظ والجهود، وبالتالي أصبح النجاح حليف من يملك صوتا أعلى وظهرا أحنى ونفسا أدنى وقلبا أقسى ولسانا أزيف وضميرا أموت وعقلا أهيف ودينا ذو تفسير أحرف (أكثر إنحرافا وتحريفا) يبيح ويحلل له كل حرام، وأصبح المثل الأعلى للجميع هو ميكافيللي ومبادئة القذرة كمقولته الشهيرة أن “الغاية تبرر الوسيلة”، وفي هذا فليتنافس المتنافسون، وأصبح القابض على الحق والدين والصح واليقين هو السفيه والمجنون، وتاه الجميع مابين تقليد الأعاجم والغرب في مساوئه فقط دون الأخذ بمحاسنه وأسباب تفوقه وتقدمه وبين تقاليد عريقة لأقدم وأرقى حضارة قامت على أسس ومباديء سبقت الجميع وبين شريعة إلهية إرتضاها وفرضها الخالق العليم لعباده وأوجب عليهم الإلتزام بها إذا ما أرادوا الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة وبين ما ارتضاه فلاسفة الحداثة والعولمة والعلمانية والتجديد والزموا الأفراد والدول بالإلتزام بها لينالوا رضاء ومباركة حكام قصور وندسور والشانزليزيه والبيت الأبيض وتل ابيب، فخرج لنا في النهاية مسوخ مشوهة لا معنى ولا شكل محدد لها، وأصبحت وأصبحنا أضحوكة والعوبة وملهاة كل تافه وسفيه وطامع وحاقد وغازي وناهب لثروات ومقدرات الشعوب، وما كان كل هؤلاء ليقدروا أن يفعلوا أو يصصلوا لما يريدون لولا أن وجدوا مساعدة من أبناء جلدتنا وساكني بلداننا وحاملي جنسيتنا واسماءنا وأنسابنا من كل جائع وطماع وبائع لدينه وعرضه ووطنه بثمن وضيع ورخيص، ويوما وراء آخر وزمنا يلي زمانا استقر بنا الحال الى هذا القاع الذي نعيشه ونراه ونتخبط فيه جميعا ونحن مازلنا نمارس ونتمسك بالشيء الوحيد الذي نجحنا وابدعنا فيه وهو مرض الإنكار والكذب على أنفسنا وإدعاء حسن وجمال حالنا واستحالة إمكان أحسن مما كان، فبعنا الوهم لنفسنا ولأولادنا وضيعنا زماننا ومستقبل من بعدنا بسبب خوفنا من مواجهة أنفسنا وخنق وكتم كل صوت وقلم يحاول تنبيهنا وإفاقتنا وتصحيح وضعنا وتقويم طريقنا.
لكن هل حدث هذا فقط بمصر؟ أم أن هناك أشباه لنا ورفقاء في دربنا ومن سبقونا أو جاءوا خلفنا؟
بالطبع يمكن القول بتكرار ذلك الحال بشكل أو بآخر في بلدان أخرى وبدرجات متفاوتة وبفروق طفيفة أو واضحة، فيبدو أن هناك دول شقيقة تستقي مبادئها ومخططاتها لمستقبلها ووعي شعوبها من نفس الكتالوج وتتبع نفس كاتب السيناريو والمخرج والمنتج بل وبنفس الشخوص والشخصيات، فتشابه الأمر بين مصر وليبيا وسوريا والعراق والسودان واليمن والجزائر ولبنان بل وحتى إيران.
والصادم في الأمر بل والمبرهن على ما بدأ به المقال، هو أن الغالبية العظمى من تلك الدول كان يحكمها منذ عشرات السنين وحتى وقت قريب جدا حكام عسكريون أو شبه عسكريون، فكان هناك حكم عسكري صريح لأشخاص يحملون رتبا عسكرية خدمتهم الأقدار والإنقلابات ليصلوا الى سدة الحكم بوضوح في فترة الخمسينات والستينات وما يليها في كل من مصر وسوريا والسودان والعراق واليمن والجزائر وليبيا وغيرهم، ومنهم من استمر الحكم العسكري الى اليوم ومنهم من تحول الى الحكم المدني الديمقراطي ثم قام على حاكمه انقلاب عسكري، لكن في النهاية فإن كلهم يرزحون تحت وطأة حكام لم يتقدموا ببلدانهم خطوة الى الأمام بل وأثقلوا كاهل بلدانهم بالديون الخارجية والداخلية أو منحوا ثرواتها للدول الغربية والشركات العابرة للقارات ذات السلطة والنفوذ كمراكز حديثة للقوى والإستعمار الإقتصادي المقٌنع.
ومن هنا وإذا وعينا هذه الأمور وقرأنا التاريخ جيدا، سيمكننا أن نهتف – عن دراية وإقتناع- أن يسقط يسقط حكم العسكر، فسواء في البلدان العربية السابق ذكرها أو في جمهوريات أمريكا الجنوبية كالأرجنتين وشيلي والبرازيل وكوبا وغيرهم الكثير أو حتى في جمهوريات الإتحاد السوفيتي السابق وكثير من الدول الأسيوية -مع استثناءات نادرة لا تكاد تذكر- لم يأت الحكم العسكري في هذه الدول بما يمكن إعتباره نقاط مضيئة أو مزايا وعلامات بارزة ونهضة وصعود من أي نوع، بل العكس هو الحادث دائما أبدا.
ولا أقول هنا أن المشكله تكمن في الحكام والشخوص المنتمين الى البذلات العسكرية بحد ذاتها، فربما يكون منهم رجالا لهم وطنية وانتماء شديد القوى وحب جارف لأوطانهم، لكن المشكلة تكمن في طريقة تربية ونشأة هؤلاء العسكريون وطريقة تفكيرهم وعملهم وعاداتهم، فمن المعروف دائما أن الطلبة وحديثي التخرج والرتب الصغيرة من العاملين في السلك العسكري يعتادون منذ بداية حياتهم على تلقي الأوامر وتنفيذها دون تفكير أو أي مساحة للإبداع أو إعمال العقل والحرية في الإختيار، وربما في أحسن الأحوال وأكثرها مرونة في التعامل أن يقال لهم “نفذ الأمر ثم ناقش بعد ذلك”, فينشأ الفتى ثم الرجل منهم وهو لم يعتاد على حرية التفكير والإبداع والتفضيل بين الإختيارات المتاحة بل والمجيء بخيار آخر جديدا وربما ليس مطروحا من نتائج فكره الحر وعقله الراشد، وبالتالي يتعامل هذا الفرد مع من يليه في الدرجة بنفس الطريقة من التعالي في إصدار الأوامر وتوقع تنفيذها كما أصدرها دون أن يقوم متلقي الأمر بأي إجتهاد أو تطوير أو إبداع، بل وربما يغضب بشدة اذا وجد ذلك ممن يليه رتبة ومقاما، ومع مرور السنوات وبحكم العادة والتكرار يصبح هذا النمط من التفكير هو السائد والمعتاد، وأي نمط آخر من الفكر الحر والإختيار والإبداع والتطوير هو شيء ممجوج ومستهجن وغير مرغوب أبدا بل ويقابل بصرامة وبعنف وعقاب يوقع على صاحب محاولة إعمال العقل والتطوير، وهذا أمر لا يمكن تغييره إذ يصبح مع مرور السنين والتعود هو أمر من سمات الشخصية وتركيبتها لا يمكن تغييره، وبالتالي في حالة خكم أيا من البلدان التي تتطلب مشاكلها كم كبير من المرونة والفكر الحر وإيجاد حلول غير نمطية وأفكار إبداعية خلاقة وخيال حر بناء، فيصطدم ذلك الحاكم العسكري بتلك المتطلبات والإحتياجات التي لم يعتد عليها طوال حياته ومسيرته العملية وحتى الدراسية، فيحدث الفشل تلو الآخر في حل مشاكل البلدان المستعصية وتنحدر الأمور من سيء لأسوأ ويتم مقابلة أي محاولة للإعتراض أو الخروج عن الخط المرسوم بكل عنف وعصبية، فتكثر الإعتقالات والقضايا والإتهامات لأناس أبرياء كل ذنبهم أنهم حاولوا التفكير خارج الصندوق فتم وضعهم داخل صندوق اسمنتي في سجن من السجون لتخليصه من هذه العادة القميئة من التفكير الحر والإبداع.. لهذا ولأكثر من هذا هتف المتظاهرون في كل الميادين قبل ميدان التحرير وسيهتفون بعده أن يسقط يسقط حكم العسكر.